فصل: تفسير الآية رقم (36):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (28- 29):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)}
وقوله عز وجل: {ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ}، قال ابن عباس وغيره: معنى الشِّرْكَ هو الذي نَجَّسهم؛ كنجاسة الخَمْر، ونصَّ اللَّه سبحانه في هذه الآية على المُشْرِكِينَ، وعلى المَسْجِد الحرام، فقاسَ مالكٌ رحمه اللَّه وغيره جَميعَ الكُفَّار من أهْلِ الكتاب وغيرهم؛ على المشركين، وقَاسَ سائرَ المساجِدِ على المَسْجِدِ الحرامِ، وَمَنَعَ مِنْ دخولِ الجميعِ في جميعِ المساجدِ، وقوَّةُ قوله سبحانه: {فَلاَ يَقْرَبُواْ} يقتضي أمْرَ المسلمين بمَنْعهم.
وقوله: {بَعْدَ عَامِهِمْ هذا}، يريد: بعد عامِ تِسْعٍ من الهجرة، وهو عَامُ حَجَّ أبو بَكْرٍ بالنَّاس.
وقوله سبحانه: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً}، أي: فقْراً، {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ}، وكان المسلمون، لَمَّا مُنِعَ المشركون من المَوْسِم، وهم كانوا يجلبون الأطعمةَ والتجاراتِ، قَذَفَ الشيطان في نفوسهم الخَوْفَ من الفَقْر، وقالوا: مِنْ أيْنَ نعيش؟ فوعَدَهم اللَّه سبحانه بأنْ يغنيهم مِنْ فَضْله، فكان الأمر كما وعد اللَّه سبحانه، فأسلَمَتِ العربُ، فتمادَى حجُّهم وتَجْرُهم، وأغنى اللَّه من فضله بالجهادِ والظهورِ على الأُمَمِ.
وقوله سبحانه: {قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الأخر...} الآية: هذه الآيةُ تضمَّنت قتالَ أهْلَ الكتاب، قال مجاهد: وعند نزول هذه الآية أخَذَ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في غَزْوَ الرُّومِ، ومشَى نحو تَبُوكَ، ونفَى سبحانه عن أَهل الكتاب الإِيمان باللَّه واليوم الآخر؛ حيث تركوا شَرْعَ الإِسلام؛ وأَيضاً فكانَتِ اعتقاداتهم غيْرَ مستقيمةٍ، لأنهم تشعّبوا، وقالوا عُزَيْرٌ ابن اللَّهِ، واللَّهُ ثالِثُ ثلاثةٍ، وغَيْرَ ذلك؛ ولهم أيضاً في البعث آراءٌ فاسدةٌ؛ كشراءِ منازِلِ الجنَّة من الرُّهْبَانِ؛ إِلى غير ذلك من الهَذَيان، {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق}، أي: لا يطيعون، ولا يمتثلون؛ ومنْه قولُ عائشة: مَا عَقَلْتُ أَبَوَيَّ إِلاَّ وَهُمَا يَدِينَانِ الدِّينَ، والدِّينُ هنا: الشريعةُ، قال ابن القاسِمِ وأشْهَبُ وسَحْنُون: وتؤخذ الجزيةُ منْ مجوس العربِ والأمم كلِّها، وأما عَبَدة الأَوثان والنِّيران وغيرِ ذلك، فجمهور العلماء على قبولِ الجزيةِ منهم، وهو قولُ مالكٍ في المدوَّنة.
وقال الشافعيُّ وأبو ثور: لا تؤخذ الجزيةُ إِلا مِنَ اليهودِ والنصارَى والمجوسِ فقطْ، وأما قَدْرها في مذْهَب مالك وغيره، فأربعةُ دنَانِير عَلَى أهْلِ الذَّهَبِ، وأربعون درْهماً عَلَى أَهْل الفضَّة، وهذا في العَنْوة، وأما الصُّلْح، فهو ما صالحوا عَلَيْه، قليلٌ أو كثيرٌ.
وقوله: {عَن يَدٍ} يحتمل وجوهاً:
منها: أنْ يريد عن قُوَّة منكم عليهم، وقَهْرٍ، واليدُ في كلام العرب: القُوَّة.
ومنها: أَنْ يريد سَوْقَ الذِّميِّ لها بِيَدِهِ، لا أنْ يبعثها معَ رَسُولٍ؛ ليكون في ذلك إِذلالٌ لهم.
ومنها: أنْ يريد نَقْدَهَا ناجزاً، تقول: بِعْتُهُ يَداً بِيَدٍ، أي: لا يؤخِّروا بها.
ومنها: أنْ يريد عن استسلام، يقال: أَلْقَى فلانٌ بيده، إِذَا عَجَز واستسلم.

.تفسير الآيات (30- 33):

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)}
وقوله سبحانه: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله}: الذي كثر في كُتُب أهْل العلم؛ أنَّ فرقةً من اليهود قالَتْ هذه المقالة وروي أنه قالها نَفَرٌ يسير منهم فِنحْاص وغيره، قال النَّقَّاش: ولم يبق الآن يهودي يقولها، بل انقرضوا.
قال * ع *: فإِذا قالها ولو واحدٌ من رُؤسَائهم، توجَّهت شنعة المقالة علَى جماعتهم، وحكَى الطبريُّ وغيره؛ أن بني إِسرائيل أصابتهم فتن وجلاء، وقيل: مَرَض، وأذهب اللَّه عنهم التَّوْراة في ذلك، ونَسُوها، وكان علماؤهم قد دَفَنُوها أول ما أحسُّوا بذلك البلاء، فلما طالَتْ المدة، فُقِدَت التوراة جملةً، فحفَّظها اللَّهُ عُزَيْراً؛ كرامةً منه له، فقال لبني إِسرائيل: إِن اللَّهَ قد حفَّظني التوراةَ، فجعلوا يَدْرُسُونها من عنْده، ثم إِن التوراة المدْفُونَة وِجِدَتْ، فإِذا هي مساويةٌ لما كان عَزَيْرٌ يدرِّس، فضَلُّوا عند ذلك، وقالوا: إِن هذا لم يتهيَّأْ لعُزَيْرٍ إِلاَ وهو ابن اللَّه، نعوذُ باللَّه من الضَّلال.
وقوله: {بأفواههم}، أي: بمجرَّد الدعوَى من غير حُجَّة ولا برهان، و{يضاهئون}، قراءةُ الجماعة، ومعناه: يحاكُون ويماثلون، والإشارة بقوله: {الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ}: إِما لمشركي العرب؛ إِذ قالوا: الملائكة بناتُ اللَّهِ؛ قاله الضَّحَّاك، وإِما لأممٍ سالفةٍ قبلها، وإِما للصَّدْر الأول من كَفَرة اليهودِ والنَصَارَى، ويكون {يضاهئون} لمعاصرِي النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وإِن كان الضمير في {يضاهئون} للنصارَى فقطْ، كانت الإِشارة ب {الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ} إلى اليهود؛ وعلى هذا فسَّر الطبريُّ، وحكاه غيره عن قتادة.
وقوله: {قاتلهم الله}: دعاءٌ عليهم عامٌّ لأنواع الشَّر، وعن ابن عباس؛ أن المعنَى: لعنهم اللَّه. قال الداووديُّ: وعن ابن عباس قاتلهم اللَّه: لعنهم اللَّه، وكلُّ شيء في القُرآن: قَتَلَ، فهو لَعْن. انتهى. و{أنى يُؤْفَكُونَ}، أَي: يُصْرَفُون عن الخَيْر.
وقوله سبحانه: {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ ورهبانهم...} الآية: هذه الآية يفسِّرها ما حكاه الطَّبريُّ؛ أن عدي بن حاتم قال: «جئْتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وفي عُنُقي صَلِيبُ ذَهَب، فَقَالَ: يَا عَدِيُّ اطرح هَذَا الصَّلِيبَ مِنْ عُنُقِكَ، فَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ: {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ ورهبانهم أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله}، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وكَيْفَ ذَلِكَ، وَنَحْنُ لَمْ نَعْبُدْهُمْ؟ فَقَالَ: أَلَيْسَ تَسْتَحِلُّونَ مَا أَحَلُّوا وَتُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمُوا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: فَذَلِكَ». ومعنى: {سبحانه} تنزيهاً له، و{نُورَ اللَّهِ}؛ في هذه الآية: هُدَاه الصادرُ عن القرآن والشَّرْع.
وقوله: {بأفواههم}؛ عبارةٌ عن قلَّةِ حيلتهم وضَعْفها.
وقوله: {بالهدى}: يعم القرآن وجميعَ الشَّرْع.
وقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ}، وقد فعل ذلك سبحانه، فالضمير في {لِيُظْهِرَهُ}: عائدٌ على الدِّين، وقيل: على الرسول، وهذا وإِنْ كان صحيحاً، فالتأويل الأول أبْرَعُ منه، وأَلْيَقُ بنظامِ الآية.

.تفسير الآيات (34- 35):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)}
وقوله عز وجل: {ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل}، المراد بهذه الآية: بيانُ نقائصِ المذكورين، ونَهْيُ المؤمنين عن تلك النقائصِ مترتِّب ضِمْنَ ذلك، واللام في {لَيَأْكُلُونَ}: لامُ التوكيدِ، وصورةُ هذا الأكْلِ هي بأنهم يأخذونَ من أموال أتباعهم ضرائِبَ وفُرُوضاً باسم الكنائسِ والبِيَعِ وغَيْرِ ذلك ممَّا يوهمونهم أنَّ النفقة فيه مِنَ الشَّرْعَ والتَقرُّب إِلى اللَّهَ، وهم خلاَلَ ذلك يحتجنون تلك الأموالَ، كالذي ذكره سليمان في كتاب السير، عن الراهِبِ الذي استخرج كَنْزَهُ.
وقوله سبحانه: {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله}، أي: عن شريعة الإِسلام والإيمان بنبيِّنا محمَّد صلى الله عليه وسلم.
وقوله سبحانه: {والذين} ابتداءٌ، وخبره {فَبَشِّرْهُم} والذي يظهر من ألفاظ الآية: أنه لما ذَكَر نَقْصَ الأحبار والرهبانِ الآكلين للمَالِ بالباطل، ذَكَرَ بعد ذلك بقَوْلٍ عامٍّ نَقْصَ الكانزين المانعين حقَّ المال، وقرأ طلحةُ بْنُ مُصَرِّف: {الَّذِينَ يَكْنِزُونَ} بغير واو،؛ وعلى هذه القراءة يجري قولُ معاوِيَةَ: أنَّ الآية في أهْل الكتَاب، وخالفه أبو ذَرٍّ، فقال: بل هِيَ فينا.
و{يَكْنِزُونَ}: معناه: يجمعون ويحفظون في الأَوعية، وليس مِنْ شرط الكَنْز: الدفْنُ، والتوعُّد في الكنز، إِنما وقع عَلَى منع الحقوق منه، وعلى هذا كثيرٌ من العلماء، وقال عليٌّ رضي اللَّه عنه: أربعةُ آلاف دِرْهَمٍ فما دُونَهَا نفقةٌ، وما زاد علَيْهَا فهو كَنْز، وإِن أَدَّيْتُ زَكَاتَهُ.
وقال أبو ذَرٍّ وجماعةٌ معه: ما فَضَلَ مِنْ مالِ الرَّجُل على حاجةِ نَفْسِه، فهو كَنْز، وهذان القولان يقتضيان أنَّ الذمَّ في حبس المال، لا في منع زكاته فقطْ.
* ت *: وحدَّث أبو بَكْرِ بْنُ الخَطِيبِ بسنده، عن عليِّ بن أبي طالب، وابنِ عُمَرَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ للفُقَرَاءِ في أَمْوَالِ الأَغْنِيَاءِ قَدْرَ مَا يَسَعُهُمْ، فَإِنْ مَنَعُوهُمْ حَتَّى يَجُوعُوا وَيَعْرَوْا وَيَجْهَدُوا، حَاسَبَهُمُ اللَّهُ حِسَاباً شَدِيداً، وعَذَّبَهُمْ عَذَاباً نُكْراً» انتهى.
وقوله سبحانه: {فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ...} الآية: قال ابنُ مَسْعود: واللَّه، لاَ يَمَسُّ دينارٌ ديناراً، بل يُمَدُّ الجلدُ حتى يكوَى بكلِّ دينار، وبكلِّ درهم قال الفخر: قال أبو بكر الوَرَّاقُ: وخُصَّتْ هذه المواضعُ بالذكْرِ؛ لأن صاحِب المال، إِذا رأى الفقيرَ، قَبَضَ جبينه، وإِذا جلَس إِلى جَنْبه، تباعد عَنْه، وولاَّه ظَهْره. انتهى.

.تفسير الآية رقم (36):

{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)}
وقوله سبحانه: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كتاب الله}، هذه الآيةُ والتي بعدها تتضمَّن ما كانت العربُ عليه في جاهليَّتها من تحريم شُهُورِ الحلِّ، وتحليلِ شهورِ الحُرْمَةَ، وإِذا نصَّ ما كانت العرب تفعله، تبيَّن معنى الآيات، فالذي تظاهرَتْ به الرواياتُ، ويتخلَّص من مجموع ما ذَكَره النَّاسُ: أن العرب كانَتْ لا عَيْشَ لأكْثَرها إِلا من الغارات وإِعمالِ سِلاَحِها، فكانوا إِذا توالَتْ عليهم حُرْمَةُ الأشهر الحُرُمِ، صَعُبَ عليهم، وأَمْلقوا وكان بنو فُقَيْمٍ من كِنانة أهْلَ دينٍ في العرب، وتَمَسُّكٍ بشرعِ إبراهيمَ عليه السلام، فانتدب منهم القلمس، وهو حُذَيْفَةُ بْنُ عَبْدِ فُقَيْمٍ، فنَسِيَ الشهورَ للعربِ، ثم خَلَفَهُ عَلَى ذلك بنوه، وذكر الطبريُّ وغيره؛ أن الأمر كان في عدوانٍ قبل بني مالكِ بن كنانةً، وكانتْ صورة فعلهم: أن العرب كانَتْ إِذا فرغَتْ من حَجِّها، جاء إِليه مَنْ شاء منهم مجتمعين، فقالوا: أَنْسَانَا شَهْراً، أيْ: أخّرْ عنا حرمةَ المُحَرَّم، فاجعلها في صَفَرٍ، فيحلُّ لهم المُحَرَّمَ، فيغيرون فيه، ثم يلتزمُونَ حُرْمَةَ صَفَرٍ؛ ليوافقوا عدَّة الأشهرِ الحُرُمِ الأربعة قال مجاهد: ويسمُّون ذلك الصَّفَرَ المُحرَّم، ثم يسمون ربيعاً الأوَّل صفراً وربيعاً الآخِرَ ربيعاً الأَوَّل، وهكذا في سائِرِ الشهورِ، وتجيء السنةُ مِنْ ثلاثةَ عَشَرَ شهراً أولها: المحرَّم المُحَلَّل، ثم المحرَّم الذي هو في الحقيقة صَفَرٌ، وفي هذا قال اللَّهُ عزَّ وجَلَّ: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً}، أيْ: ليستْ ثلاثةَ عَشَرَ، ثم كانَتْ حِجَّةُ أبي بَكْرٍ في ذي القَعْدة حقيقةً، وهم يسمُّونه ذَا الحِجَّة، ثم حَجَّ رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَنَةَ عَشْرٍ في ذي الحِجَّة حقيقةً، فذلك قوله عليه السلام: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ استدار كَهَيْئتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السموات وَالأَرْضِ؛ السَّنَةُ اثنا عَشَرَ شَهْراً، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ: ذُو القَعْدَةِ، وذُو الحِجَّة والمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَان». وقوله في {كتاب الله}، أَيْ: فيما كتبه، وأثبته في اللَّوْحِ المحفوظ، أو غيرِهِ، فهي صفةُ فِعْلٍ مثل خَلْقِهِ وَرِزْقِهِ، وليستْ بمعنى قضاءه وتقديره؛ لأن تلكَ هي قَبْلَ خلْق السموات والأرض.
وقوله سبحانه: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}: نصٌّ على تفضيلِ هذه الأربعة وتشريفها، قال قتادة: «اصطفى اللَّه مِنَ الملائكةِ والبَشَرِ رُسُلاً، ومِنَ الشَهور المُحَرَّمَ ورمَضَانَ، ومِنَ البُقَعِ المساجَدِ، ومِنَ الأيام الجمعةَ، ومِنَ الليالِي ليلةَ القَدْرِ، ومِنَ الكلام ذِكْرُهُ، فينبغي أَنْ يعظَّم ما عَظَّمُ اللَّه».
وقوله سبحانه: {ذلك الدين القيم}، قالتْ فرقة: معناه: الحسابُ المُسْتَقيم، وقال ابن عباس، فيما حكى المَهْدَوِيُّ: معناه: القضاءُ المستقيم.
قال * ع *: والأصوب عندي أنْ يكون {الدين} هاهنا عَلَى أشهر وجوهه، أي: ذلك الشَّرْعُ والطَّاعة.
وقوله: {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ}، أي: في الاثني عَشَرَ شَهْراً، أي: لا تظلموا أنفسكم بالمعاصي في الزمان كلِّه، وقال قتادة: المرادُ الأربعةُ الأشْهُرِ، وخُصِّصتْ تشريفاً لها.
قال سعيدُ بن المسيِّب: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يحرِّم القتَالَ في الأشْهُرِ الحُرُم؛ بما أنزل اللَّه في ذلك؛ حتَّى نزلَتْ براءة.
وقوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ المشركين}، معناه: فيهنَّ فأحْرَى في غيرهن، وقوله: {كَافَّةً}، معناه: جميعاً.

.تفسير الآيات (37- 39):

{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}
وقوله سبحانه: {إِنَّمَا النسيء}، يعني: فِعْلُ العرب في تأخيرهم الحُرْمَةَ، {زِيَادَةٌ فِي الكفر}، أي: جارٍ مع كفرهم باللَّهِ، وخلافِهِمْ للحقِّ، فالكفر متكثِّر بهذا الفِعْلِ الذي هو باطلٌ في نفْسهِ؛ وممَّا وُجِدَ في أشعارهم قَوْلُ جِذْلٍ الطَّعَانِ: [الوافر]
وَقَدْ عَلِمَتْ مَعَدٌّ أَنَّ قَوْمِي ** كِرَامُ النَّاسِ إِنَّ لَهُمْ كِرَامَا

أَلَسْنَا النَّاسِئِينَ عَلَى مَعَدٍّ ** شُهُورَ الحِلِّ نَجْعَلُهَا حَرَامَا

وقوله سبحانه: {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا}، معناه: عاماً من الأعوام، وليس يريد أنَّ تلك كانَتْ مداولةً.
وقوله سبحانه: {لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله}، معناه: ليوافقُوا، والمواطَأَةُ: الموافَقَةُ.
وقوله سبحانه: {ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض}، هذه الآيةُ بلا خلافٍ أنها نزلَتْ عتاباً على تخلُّف من تخلَّف عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في غزوة تَبُوكَ، وكانَتْ سنةَ تسْعٍ من الهجرةِ بعد الفَتْح بعامٍ، غزا فيها الرُّوم في عِشْرينَ ألْفاً بين راكبٍ وراجلٍ، والنَّفْر: هو التنقُّل بسرعة من مكانٍ إلى مكانٍ، وقوله: {أثاقلتم} أصله تَثَاقَلْتُمْ، وكذلك قرأ الأعمش وهو نحو قوله: {أَخْلَدَ إِلَى الأرض} [الأعراف: 176] وقوله: {أَرَضِيتُم} تقريرٌ، والمعنى: أرضيتمْ نَزْرَ الدنيا، عَلى حظيرِ الآخرةِ، وحَظِّها الأَسْعَد.
قَالَ ابنُ هِشامٍ ف مِنْ من قوله: {مِنَ الأخرة} للبدل. انتهى. ثم أخبر سبحانه، أنَّ الدنيا بالإِضافة إِلى الآخرة قليلٌ نَزْرٌ، فتعطي قُوةُ الكلام التعجُّبَ مِنْ ضلالِ مَنْ يرضَى النزْرَ الفانِيَ بَدَل الكثير الباقي.
* ت *: وفي صحيح مُسْلم والترمذيِّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا الدُّنْيَا في الآخرة إِلاَّ مَثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ في اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَاذَا تَرْجعٌ» قال أبو عيسَى: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. انتهى.
وقوله سبحانه: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ}: شرطٌ وجوابٌ، ولفظُ العذاب عامٌّ يدخل تخته أنواعُ عذابِ الدنيا والآخرة.
وقوله: {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ}: تَوعُّدٌ بأن يبدل لرسوله عليه السلام قوماً لا يقعدون عند استنفاره إِياهم، والضميرُ في قوله: {وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا} عائدٌ على اللَّه عز وجل، ويحتملُ أنُ يعود على النبيِّ صلى الله عليه وسلم هو أَلْيَقُ.